وسط الأجواء المشتعلة والهتافات الحماسية وقرع الطبول الذي يكاد أن يهز الجبال.. يجهز صافرته ويقوم بعمليات الإحماء لتمثيل بلاده كحكم مشرف لها في نهائي البطولة السمراء الغالية ويدور في ذهنه صناعة المجد التي أصبحت حرفته ويستعيد ذكريات مضى عليها الأعوام حينما كان شابا أصغر يقف مكان اللاعبين، يعقد رباط حذاءه وفي أذهانه كتابة التاريخ وفمه يتحرك بكلمات النشيد الوطني ورأسه عالية، يحلم بما سيكون بعد الـ 90 دقيقة.
كلا الطرفان لديه مسؤولياته، وكلاهما يمكنه تغيير نتيجة المباراة وإهداء الكأس الغالية لفريقه أو لغريمه، اللاعب يملك القدرة على صناعة الحدث في أقدامه، والحكم يمكنه ذلك بصافرته.
"من الضروري أن تكن متخصص ومتمكن في الدور الذي تلعبه وتمنحه كل طاقتك حتى تحصل على أفضل مما تريد".. بعد أن ردد مثل هذه الكلمات في ذاته توقف في مكانه وسرح في بداياته.
البداية..
نقطة البداية في قصة متعدد المزايا، تبدأ بسطر من النسخة الأولى من بطولة كأس الأمم الإفريقية 1957، والتي جاءت بعد تأسيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم.
البطولة اقيمت في السودان، بمباراتين فقط، بعد إلغاء مباراة إثيوبيا وجنوب إفريقيا وتأهل إثيوبيا دون أن تلعب للنهائي، وجمعت المباراة الأولي بين منتخبي مصر والسودان وفاز الفراعنة بها بهدفين لهدف، حيث سجل رأفت عطية هدف مصر الأول في تاريخ البطولة، قبل أن يضيف محمد دياب العطار الهدف الثاني.
أنا الديبة البطل
مباراة النهائي الأول للبطولة الإفريقية، والجماهير تكتظ داخل الملعب لمشاهدة كتابة تاريخ الرياضة في إفريقيا، ولكنه من المؤكد أنهم لم يكونوا يعلموا أن صانع التاريخ بنفسه سيتواجد داخل الملعب.
بدأت المباراة ساخنة من جانب الفريقين الجماهير تهتف في كافة أرجاء الملعب والصيحات تتعالي وتتعالى والحماسة تزداد خاصة في أرض الملعب والكل يترقب اهتزاز الشباك الذي لم يجعل الجالسين بداخل المدرجات يملوا من الانتظار، بعدما تمكن رأفت عطية شرف من تسجيل أول أهداف البطولة الإفريقية عبر التاريخ من ركلة جزاء في الدقيقة 21.
"ظننا أننا هنا نقدم أفضل ما لدينا، والانتصار يقترب، حتى انتهى شوط اللقاء الأول، ونحن فرحين بما قدمنا، وبدأ الشوط الثاني وحماس لاعبي المنتخب الوطني بدأ في الزيادة قبل أن يخطف اللاعب صديق منزول، هدف التعادل في الدقيقة 60 للمنتخب السوداني".
"الجماهير السودانية تشعل المدرجات فرحًا .. العودة أصبحت أسهل لهم، ونحن نلعب خارج الديار وضغط الأرض والمشجعين يزداد على لاعبي الفريق، أخشى أن تتفكك قوانا.. تمر الدقائق والحماس يزداد في المدرجات، ومع كل هتاف يستقوى لاعبو السودان بتشجيع الجماهير، ويتضاعف مجهودهم داخل البساط الأخضر.. لا ننسى لماذا أتينا إلى هنا ونسعى ألا نتأثر، الدقيقة 72.. ها هي تمريرة ساحرة من إبراهيم توفيق في موقع مميز للغاية.. دياب يتقدم ويضع لمسته القاضية، لمسة هدف الفوز.. ها أنا ذا أنا الديبة البطل".
الصحف المصرية تتغنى بما فعله أبناء الفراعنة وتتشوق لمباراة النهائي.. هل يمكن للمصريين فعلها والفوز بالبطولة الأولى؟
إثيوبيا لم تخض أي مواجهات ومصر لعبت مباراة قوية، هل سيؤثر هذا على عناصر الفريق ويزيد من إجهادهم؟ أم تصبح هذه المواجهة أشبه بالاستعداد الأمثل لرفع الكأس؟ لا أحد يعلم الإجابة والجميع يترقب ويراقب.
الديبة لا يمكنك أن تشاهده.. الديبة كالتاريخ يحضر فقط
المباراة النهائية.. والكل ينتظر صناعة الحدث والتاريخ الذي سيكتب، مصر وإثيوبيا، في مباراة أخيرة في نسخة هي الأصغر في تاريخ بطولة إفريقيا، مباراتين فقط لتصبح صاحب أول كأس!
حكم المباراة أطلق صافرته معلنًا بداية اللقاء.. لم ينتظر سوى دقيقتين حتى أطلق صافرته مرة أخرى، فـ الديبة لم يتمهل حتى سجل أول أهداف المباراة.
لاعبو إثيوبيا يمرروا الكرة في وسط الميدان بعد الهدف الأول.. لم يلبثوا كثيرًا حتى عاد حكم اللقاء واستخدم صافرته مرة أخرى بعد 5 دقائق معلنًا عن الهدف الثاني للفراعنة.. والديبة يحتفل هناك بعد أن سجل هدفين في 7 دقائق! إنه لسيناريو يمكن تدوينه في كتابات السنيما.
انتهى الشوط الأول بدأ الثاني ومحمد دياب لازال يقدم درسًا في كرة القدم، ويعطي حصصا للتقوية في كيفية تسجيل الأهداف، بعدما سجل الهدف الثالث للفراعنة، والجماهير لا تصدق ما ترى ولا تتوقع ما يحدث في الملعب.
نهاية المباراة.. دقيقة وحيدة تفصل المنتخب عن تسلم كأس البطولة والديبة حقق أول رقمين قياسيين في تاريخ البطولة.. الأول هو هداف النسخة الأولى من أمم إفريقيا والثاني تسجيل هاتريك في لقاء واحد.. ولكن الديبة قرر زيادة الألقاب لقبًا وأن يسجل هدفًا أحيرًا في الدقيقة 89 ليعلن عن نفسه كأول لاعب يسجل رباعية في نهائي البطولة وهدافا للبطولة برصيد 5 أهداف.
الجميع يستحي من أن يفعل شيء سوى أن يتمتع بما يقدمه الديبة، ومن كان حاضرًا ليشاهد صناعة التاريخ في أول نسخة من البطولة، لم يدري أنه سيشاهد التاريخ نفسه داخل الميدان.
عاد سريعًا بعدما سرح لثوان يتذكر كيف كانت بدايته كلاعب كرة، قبل أن يمسك الديبة بصافرته وهو يقف في نفس الظروف لكن كحكمًا، بعد أعوام من إسدال الستار على مشاهد بطولته، ليفتتح هو الستار بنفسه معلنًا عن بداية مواجهة نهائي الأمم لإفريقية 1968 بين أوغندا والكونغو والتي انتهت بفوز الثاني بهدف وحيد دون رد بصافرة البطل متعدد المزايا.